انتهت مرحلة ما بعد الاستعمار وبدأ عصر العولمة منذ بداية الثمانينيات. واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, ان تفرض علي الدول العربية سياسة التكيف الهيكلي والتي بمقتضاها يتم تصفية القطاع العام والتحول الصريح إلي اقتصاد رأسمالي خالص, ومن هنا صممت برامج الخصخصة, وذلك من أجل كف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد, وترك السوق بالكامل للقطاع الخاص.
وجاءت من بعد الليبرالية الجديدة لتصبح هي المذهب الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية مستفيدة في ذلك من اتساع نطاق العولمة, التي تعني سرعة تدفق المعلومات والأفكار ورءوس الأموال والخدمات والبشر من مكان لمكان اخر في العالم بغير حدود ولاقيود, لكي تحول العالم كله إلي سوق رأسمالي واسع المدي, تتم فيه المعاملات المالية والاقتصادية من خلال تجاوز الحدود والقيود, بفضل الثورة الاتصالية الكبري.
والواقع ان العولمة الاقتصادية الرأسمالية لم تحقق وعودها بالنسبة لدول العالم الثالث عموما, وللدول العربية خصوصا بحكم الفجوات الطبقية الكبري التي نشأت بين قلة من الاغنياء وكثرة من الفقراء الذين باتوا يعانون نقص برامج الرعاية الاجتماعية والتضخم وارتفاع الأسعار وتدني الاجور.
وكان يمكن لزعماء العولمة الاقتصادية الرأسمالية ان يواصلوا عملية الخداع الكبري في اقناع شعوب العالم بأن الرأسمالية حتي لو توحشت هي مفتاح التنمية والتقدم, إلا ان وقوع الازمة المالية الكبري في أمريكا وتداعياتها في كل بلاد العالم, كانت الدليل الأكيد علي انكشاف هذه الاسطورة!
غير انه اخطر من ذلك فقد زالت الاقنعة عن ممثلي العقل السياسي الغربي في عصر العولمة, فقد تبين ان مشروعهم لفرض الديمقراطية علي العالم العربي ولو بالقوة كما حدث في العراق, ليس سوي جريمة صريحة ترتكب ضد الشعوب العربية, كما ان ادعاءاتهم انهم المدافعون عن حقوق الانسان, ومن حقهم عقاب الدول العربية التي تخرق هذه الحقوق, ليس سوي كذبة كبري, لأنه ثبت انهم هم الذين يخرقون حقوق الانسان سواء في سجن أبوغريب في العراق, أو في معتقل جوانتانامو, أو في مجال التحقيق مع المتهمين بالإرهاب, عن طريق استخدام التعذيب المنهجي, بما فيه عملية الايهام بالغرق لاستنطاق المتهمين.
ويصل العقل السياسي الغربي إلي ذروة نفعيته وانتهازيته وخداعة في مجال علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل, ودفاع إدارة الرئيس اوباما المستميت لتمرير الخطط الإسرائيلية, والتي تتلخص في التطبيع المفروض فرضا علي الدول العربية في مقابل هزلي هو تعهد مكتوب يسجله علي نفسه رئيس وزراء إسرائيل بتجميد الاستيطان لمدة عام!
وهو تعهد يستطيع ان يمزقه في أي وقت كما انه يعني ـ من بين ما يعنيه ـ انه بعد عام يمكن له ان يواصل الاستيطان مرة أخري, بعد ان يكون الفأس قد وقع في الرأس, بمعني بعد ان تكون الدول العربية قد وقعت في مستنقع التطبيع المجاني تحقيقا لمصالح الدولة الإسرائيلية العنصرية!
هذه هي بعض تجليات العقل السياسي الغربي في عصر العولمة, والتي تبرز تدهوره, واتساع الفجوة بين مثالياته المعلنة في الحرية والاخاء والمساواة وواقعه الذي يعتمد علي آليات الكذب والخداع وازدواجية المعايير التي يقوم عليها. بقي من بعد ان نتساءل عن: كيف يمكن للعقل السياسي العربي ان يواجه العقل السياسي الغربي, وان يستنهض قواه لمواجهة الاستعمار الجديد في عصر العولمة؟!