بؤس العقل السياسي الغربي!
بقلم :السيد يسين
في محاولتنا السابقة لتشريح ظاهرة الفكر المتطرف طرحنا سؤالا مهما هو: ما الذي يؤدي إلي ظهور التيارات الفكرية الدينية المتطرفة؟
وقررنا ان الاجابة عن هذا السؤال تقتضي دراسة اصول تكون الدولة العربية الحديثة, والعوامل الخارجية التي اثرت عليها, خصوصا ظاهرة الاستعمار الغربي, واتجاهات النخب السياسية الوطنية التي قادت شعوبها إلي الاستقلال, واخيرا التركيز علي سؤال النهضة العربية الأولي الاساسي, وهو: لماذا التخلف وكيف يمكن ان نتقدم؟.. واختلاف الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين العرب في الرد علي هذا السؤال.
خططت للاجابة عن كل هذه الأسئلة المعقدة والمتشابكة في سلسلة مقالات غير ان بعض الاخبار, التي نشرتها وسائل الإعلام المختلفة, قطعت علي الطريق, واستفزتني, فقررت ان اعلق عليها من زاوية التأصيل التاريخي لمسيرة العقل السياسي الغربي, خصوصا في تعامله مع شعوب العالم الثالث.
الخبر الأول يقرر ان نحو سبعين عضوا من اعضاء الكونجرس رفعوا عريضة للرئيس أوباما طالبين منه الضغط الشديد علي الدول العربية لكي تبادر بالتطبيع مع إسرائيل, من خلال فتح مكاتب تجارية واقامة ندوات اكاديمية مشتركة بين الاكاديميين الإسرائيليين والعرب, واقامة اتصالات ثقافية متعددة, ووقف العداء العربي ازاء إسرائيل, والحفاظ علي امن إسرائيل, وعدم الضغط عليها في المسألة الخاصة بتهويد القدس, والاستيطان في الضفة الغربية.
وقد سبق هذا الخبر آخر عن ان الرئيس أوباما يضغط علي نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل ليصدر تعهدا مكتوبا لتجميد الاستيطان لمدة عام مقابل ان تبادر الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل! وخبر اخير لقائد القوات البريطانية في افغانستان, مؤداه ان بريطانيا تخطط للبقاء في افغانستان لمدة تتراوح بين ثلاثين واربعين عاما للمساعدة في اعادة بناء هذا القطر التعيس!
ثلاثة اخبار كلها تؤكد ان العقل السياسي الغربي في عصر العولمة يمر بأزمة حادة تكشف عن نفعيته وانتهازيته وتناقضه, واستخدام آلية ازدواج المعايير في التعامل مع كل من إسرائيل والعرب والمسلمين بوجه عام, غير ان فهم مسيرة العقل السياسي الغربي ينبغي ان يبدأ بدراسة تجلياته في مرحلة الاستعمار, ثم في مرحلة ما بعد الاستعمار واخيرا في عصر العولمة.
كان لابد للاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية وبعض بلاد العالم الثالث عموما, ان يجد لنفسه غطاء اخلاقيا لكي يبرر استعماره لهذه البلاد, ويضفي الشرعية علي الجرائم التي قام بها ضد السكان الاصليين بما فيها استخدام القوة المسلحة الباطشة ضد قوات المقاومة وضد السكان المدنيين العزل علي السواء لإخضاعهم بالقوة, تمهيدا لنهب ثروات بلادهم, وتحقيق الفائض الرأسمالي الذي سمح للبلاد الأوروبية الاستعمارية ان تنتقل من التخلف إلي التقدم, مستفيدة في ذلك من الثورة الصناعية وانجازاتها المتعددة.
وقد وجد المفكرون الأوروبيون العنصريون هذا الغطاء الاخلاقي للاستعمار في نظرية شهيرة صاغوها هي عبء الرجل الأبيض في تمدين الشعوب البربرية!
وهكذا حاول هؤلاء المفكرون التنظير للاستعمار الأوروبي باعتباره يمثل رسالة اخلاقية سامية وضعها الله سبحانه وتعالي علي عاتق الرجل الأبيض أي المستعمر لكي يخرج الشعوب المستعمرة من الظلمات إلي النور!
غير ان الحقيقة التاريخية تؤكد ان الاستعمار الأوروبي سواء اتخذ شكل الاحتلال الانجليزي لمصر لمدة سبعين عاما, أو صورة الاستعمار الاستيطاني للجزائر الذي استمر نحو180 عاما ولم ينته إلا علي يد الثورة الجزائرية المجيدة, وكذلك الاحتلال الايطالي لليبيا, والاحتلال الفرنسي للمغرب وتونس, ونظم الوصاية والانتداب علي سوريا ولبنان, والاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين, كل هذه الصور ادت إلي مظالم تاريخية كبري وقعت في حق كل هذه الشعوب المحتلة والمستعمرة, ولم تتردد الدول الاستعمارية في ارتكاب جرائم ابادة ضد الشعوب المستعمرة, وجرائم اخري يعاقب عليها القانون الدولي العام.
وقد استطاعت هذه الدولة الأوروبية الاستعمارية ان تعوق مسيرة التقدم في الدول العربية والإسلامية, وان تشوه سعيها لإقامة دول ديمقراطية حديثة, وذلك بفرض عملائها ليشكلوا نظم حكم عملية تأتمر بأوامرها, وتنفذ سياساتها تحقيقا لمصالحها الاستعمارية.
في مطلع الخمسينيات بدأت الموجة الاستعمارية تنحسر, خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945 وتأسيس الأمم المتحدة, وبدأت مسيرة استقلال الدول المستعمرة, سواء بالكفاح المسلح, كما حدث في الجزائر عن طريق الثورة الجزائرية, أو بالتفاوض كما حدث في مصر بين الاحتلال الانجليزي وقادة ثورة23 يوليو1952, وكما حدث في ليبيا وتونس والمغرب والعراق وسوريا ولبنان وغيرها من الدول.
وقامت نظم حكم وطنية شكلتها النخب السياسية الوطنية العربية, التي من خلال الكفاح استخلصت الاستقلال من براثن الاستعمار, وفي بعض الدول العربية قامت انقلابات عسكرية كما حدث في مصر عام1952, تحول بعضها إلي ثورات حقيقية, بحكم تبنيها لمطالب الحركات الوطنية في الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني.
انسحبت اذن الدول الاستعمارية الأوروبية من مجال الاستعمار المباشر بحكم تغير السياق التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية, غير انها في الواقع انتقلت بعد ذلك إلي مجال الاستعمار غير المباشر!
استطاعت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية علي وجه الخصوص, التي حلت محل الدول الأوروبية الاستعمارية التقليدية في العالم العربي والشرق الأوسط بشكل عام في مرحلة ما بعد الاستعمار ان تهيمن علي الدول العربية وعديد من الدول الإسلامية, من خلال نشر ايديولوجية التنمية التي تعني تعبئة الموارد الاقتصادية وحشد الجهود البشرية من أجل تحويل هذه الدول من التخلف إلي عالم المجتمعات الحديثة.
وقد كان قبول هذه الايديولوجية من قبل القيادات الوطنية الجديدة بعد الاستقلال اشبه ما يكون بفخ وقع بعضها فيه بحسن نية, وبعضها الآخر نتيجة عدم فهم قوانين الاستعمار الرأسمالي في مرحلة ما بعد الاستعمار, ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية هيمنت علي قرارات هيئات دولية كبري, ابرزها البنك الدولي, وصندوق النقد الدولي حتي ترسم خطط التنمية في الدول الجديدة المستقلة بما يحقق مصالحها الرأسمالية المباشرة, وذلك لأن كلا من البنك والصندوق كانا مصر تمويل مئات من مشاريع التنمية المطلوبة بشدة في البلاد المستقلة, حتي تثبت القيادات السياسية الوطنية لشعوبها انها تنجز في مجالات التعليم والصحة والاسكان والتصنيع.
غير ان قرارات التمويل كانت تتم ليس وفق حسابات اقتصادية, ولكن في ضوء شروط سياسية مجحفة في بعض الاحيان, حتي لاتخرج مسارات التنمية في هذه البلاد عن الخطة التي حددتها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تتمثل اساسا في تحويل هذه الدول إلي سوق واسعة لتسويق منتجاتها, والسماح لها باقامة بعض المصانع غير الاستراتيجية, ومنعها من تحقيق الاستقلال الاقتصادي الحقيقي, حتي تظل دائما تابعة للاقتصاد الرأسمالي العالمي.
ولعل من ابرز الامثلة علي ذلك ان البنك الدولي سحب عرضه بتمويل بناء السد العالي, الذي كان يعتبره قادة الثورة المصرية المشروع القومي الاساسي الذي سيكفل تنمية الاقتصاد المصري, وحشد جهود الجماهير للانخراط في مشاريع تصنيعية طموح تحقق التقدم الفعلي.
ومن هنا اتجه جمال عبدالناصر إلي الاتحاد السوفيتي, الذي اسهم في اقامة السد العالي, الذي سيظل احد الانجازات الكبري للعصر الثوري في مصر.